فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر. فقال رجل: يا رسول الله، إنّ الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا؟ قال: إنّ الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمص الناس» ومعنى بطر الحق أنه يستكبر عند سماع الحق فلا يقبله ومعنى غمص الناس استنقاصهم وازدراؤهم، ولما بالغ سبحانه وتعالى في دلائل التوحيد وأورد الدلائل القاهرة في إبطال مذاهب عبدة الأصنام قال تعالى عاطفًا على: {قلوبهم منكرة} {وإذا قيل لهم} أي: لهؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة وقوله تعالى: {ما} استفهامية و{ذا} موصولة، أي: ما الذي {أنزل ربكم} على محمد صلى الله عليه وسلم واختلف في قائل هذا القول فقيل: كلام بعضهم لبعض، وقيل: قول المسلمين لهم، وقيل: قول المقتسمين الذين اقتسموا مداخل مكة ينفرون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سألهم وفود الحاج عما أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم {قالوا} مكابرين في إنزال القرآن هو {أساطير} أي: آكاذيب {الأوّلين} مع عجزهم بعد تحديهم عن معارضتهم أقصر سورة منه مع علمهم بأنهم أفصح الناس وأنه لا يكون من أحد من الناس متقدّم أو متأخر قول إلا قالوا أبلغ منه. فإن قيل: هذا كلام متناقض لأنه لا يكون منزلًا من ربهم وأساطير؟
أجيب: بأنهم قالوه على سبيل السخرية كقوله: {إنّ رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون} [الشعراء] واللام في قوله تعالى: {ليحملوا} لام العاقبة كما في قوله تعالى: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوّا وحزنًا} [القصص] وذلك لما وصفوا القرآن بكونه أساطير الأوّلين كان عاقبتهم بذلك أن يحملوا {أوزارهم} أي: ذنوب أنفسهم وإنما قال تعالى: {كاملة} لئلا يتوهم أنه يكفر عنهم شيء بسبب البلايا التي أصابتهم في الدنيا وأعمال البرّ التي عملوها في الدنيا بل يعاقبون بكل أوزارهم {يوم القيامة} الذي لا شك فيه ولا محيص عن إتيانه. قال الرازي: وهذا يدل على أنه تعالى قد يسقط بعض العقاب عن المؤمنين إذ لو كان هذا المعنى حاصلًا في حق الكل لم يكن لتخصيص هؤلاء الكفار بهذا التكميل فائدة {و} ليحملوا أيضًا {من} جنس {أوزار} الجهلة الضعفاء {الذين يضلونهم} وقوله تعالى: {بغير علم} حال من مفعول يضلونهم، أي: يضلون من يعلم أنهم ضلال أو من الفاعل وإنما وصف بالضلال واحتمال الوزر من أضلوه وإن لم يعلم لأنه كان عليه أن يبحث وينظر بعقله حتى يميز بين المحق والمبطل وإنما حصل للرؤوساء الذين أضلوا غيرهم وصدّوهم عن الإيمان مثل أوزار الأتباع لأنهم دعوهم إلى الضلال فاتبعوهم فاشتركوا في الإثم وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا».
أخرجه مسلم، ومعنى الآية والحديث أنّ الرئيس والكبير إذا سنّ سنة حسنة أو سيئة قبيحة فتبعه عليها جماعة فعملوا بها فإن الله تعالى يعطيهم ثوابه وعقابه حتى يكون ذلك الثواب والعقاب مساويًا لكل ما يستحقه كل واحد من الأتباع الذين عملوا بالسنة الحسنة أو القبيحة، وليس المراد بأن الله يوصل جميع الثواب أو العقاب الذي يستحقه الأتباع إلى الرؤوساء ويدل لذلك قوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} [الأنعام] وقوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} [النجم].
تنبيه: قال الواحدي: لفظة من في قوله تعالى: {ومن أوزار} ليست للتبعيض لأنها لو كانت كذلك لنقص عن الأتباع بعض الأوزار وقد قال صلى الله عليه وسلم: «لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا» لكنها للجنس كما قدّرت ذلك في الآية الكريمة، أي: ليحملوا من جنس أوزار الأتباع، وقيل: إنها للتبعيض وجرى عليه البيضاوي تبعًا للزمخشري. {ألا ساء} أي: بئس {ما يزرون} أي: يحملون حملهم هذا وفي هذا وعيد وتهديد لهم. فإن قيل: إنّ الله تعالى حكى هذه الشبهة عن القوم ولم يجب عنها بل اقتصر على محض الوعيد فما السبب في ذلك؟
أجيب: بأنّ السبب فيه أنه تعالى بيّن كون القرآن معجزًا بطريقين: الأوّل: أنه صلى الله عليه وسلم تحداهم أولًا بكل القرآن وثانيًا بعشر سور وثالثًا بسورة فعجزواعن المعارضة وذلك يدل على كونه معجزًا الثاني: أنه تعالى حكى هذه الشبهة بعينها في آية أخرى وهي قوله تعالى: {اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلًا} [الفرقان] وأبطلها بقوله تعالى: {قل أنزله الذي يعلم السرّ في السموات والأرض} [الفرقان] ومعناه أنّ القرآن يشتمل على الإخبار بالغيوب، وذلك لا يتأتى إلا ممن يكون عالمًا بأسرار السموات والأرض، ولما ثبت كون القرآن معجزًا بهذين الطريقين وتكرّر شرح هذين الطريقين مرارًا كثيرة لا جرم اقتصر في هذه الآية على مجرّد الوعيد ولم يذكر ما يجري مجرى الجواب عن هذه الشبهة ثم إنه سبحانه وتعالى بالغ في وصف وعيد هؤلاء الكفار بقوله تعالى:
أي: ممن رأوا آثارهم في ديارهم {فأتى الله} أي: أمره {بنيانهم من القواعد} أي: من جهة العمد التي بنوا عليها مكرهم {فخرّ} أي: سقط {عليهم السقف من فوقهم} وصار سبب هلاكهم وقرأ أبو عمرو في الوصل بكسر الهاء والميم وحمزة والكسائي بضم الهاء والميم، والباقون بكسر الهاء وضم الميم، وأمّا الوقف فحمزة بضم الهاء على أصله والباقون بالكسر. {وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون} أي: من جهة لا تخطر ببالهم وهذا على سبيل التمثيل، أي: التشبيه والتخييل لإفساد ما أبرموه من المكر بالرسل فجعل الله هلاكهم فيما أبرموه كحال قوم بنوا بنيانًا وعمدوه بالأساطين فأتى البنيان من الأساطين بأن تضعضعت فسقط عليهم السقف فهلكوا نحوه من حفر لأخيه جبًا وقع فيه منكبًا، وقيل: هو نمروذ بن كنعان حين بنى الصرح ببابل ليصعد إلى السماء قال ابن عباس: كان طول الصرح في السماء خمسة آلاف ذراع، وقال كعب: كان طوله فرسخين فأهب الله تعالى الريح فألقت رأسه في البحر وخرّ عليهم الباقي وهم تحته قال البغوي: ولما سقط الصرح تبلبلت ألسن الناس يومئذ من الفزع فتكلموا بثلاثة وسبعين لسانًا فلذلك سميت بابل وكان لسان الناس قبل ذلك بالسريانية فذلك قوله تعالى: {فأتى الله بنيانهم من القواعد} أي: أتى أمره فخرب بنيانهم من أصلها فخرّ عليه وعلى قومه السقف، أي: أعلى البيوت من فوقهم فهلكوا. تنبيه: قال ابن الخازن في قول البغوي: وكان لسان الناس قبل ذلك بالسريانية نظر لأنّ صالحًا عليه السلام كان قبلهم وكان يتكلم بالعربية وكان أهل اليمن عربًا منهم جرهم الذين نشأ إسماعيل بينهم وتعلم منهم العربية وكان ببابل من العرب طائفة قديمة قبل إبراهيم عليه السلام انتهى، وقد يقال: إنه كان لسان أكثر الناس بالسريانية فلا ينافي ذلك. فإن قيل: ما فائدة قوله تعالى: {فخرّ عليهم السقف من فوقهم} والسقف من فوقهم؟
أجيب: بأنهم قد لا يكونون تحته فلما قال تعالى: {فخرّ عليهم السقف من فوقهم} دل على أنهم كانوا تحته وحينئذٍ يفيد هذا الكلام بأنّ الأبنية قد تهدّمت وهم ماتوا تحتها، ولما ذكر الله تعالى حال أصحاب المكر في الدنيا ذكر حالهم في الآخرة بقوله عز وجلّ: {ثم يوم القيامة يخزيهم} أي: يذلهم ويهينهم بعذاب النار {ويقول} لهم الله تعالى على لسان الملائكة توبيخًا: {أين شركائي} أي: في زعمكم واعتقادكم {الذين كنتم تشاقون} أي: تخالفون المؤمنين {فيهم} أي: في شأنهم وقرأ نافع بكسر النون والباقون بفتحها {قال} أي: يقول {الذين أوتوا العلم} أي: من الأنبياء والمؤمنين وقال ابن عباس: يريد الملائكة {إنّ الخزي} أي: البلاء المذل {اليوم} أي: يوم الفصل الذي يكون للفائز فيه العاقبة المأمونة {والسوء} أي: كل ما يسوء {على الكافرين} أي: الغريقين في الكفر الذين تكبروا في غير موضع التكبر، وفائدة قولهم إظهار الشماتة، وزيادة الإهانة، وحكايته لتكون لطفًا لمن سمعه. تنبيه: في الآية دلالة على أن ماهية الخزي وماهية السوء في يوم القيامة مختصة بالكافرين وهذا ينفي حصول هذه الماهية في حق غيرهم ويؤكد هذا قول موسى عليه السلام: {إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى} [طه] ثم إنه تعالى وصف عذاب هؤلاء الكافرين من وجه آخر فقال سبحانه وتعالى: {الذين تتوفاهم الملائكة} أي: يقبض أرواحهم ملك الموت وأعوانه عليهم السلام، وقرأ حمزة في هذه الآية وفي الآية الآتية بالياء في الموضعين على التذكير لأن الملائكة ذكور والباقون بالتاء على التأنيث لأن لفظ الجمع مؤنث. {ظالمي أنفسهم} أي: بأن عرضوها للعذاب المخلد بكفرهم {فالقوا السلم} أي: استسلموا وانقادوا حين عاينوا الموت قائلين: {ماكنا نعمل من سوء} أي: شرك وعدوان فتقول لهم الملائكة: {بلى} أي: بل كنتم تعملون أعظم السوء ثم علل تكذيبهم بقوله تعالى: {إنّ الله عليم بما كنتم تعملون} أي: فلا فائدة لكم في إنكاركم فيجازيكم به.
ولمّا كان هذا الفعل مع العلم سببًا لدخول جهنم قال تعالى: {فادخلوا} أي: أيها الكفرة {أبواب جهنم} أي: أبواب طبقاتها ودركاتها {خالدين} أي: مقدّرين الخلود {فيها} أي: جهنم لا يخرجون منها وإنما قال تعالى ذلك لهم ليكون أعظم في الخزي والغم وفي ذلك دليل على أنّ الكفار بعضهم أشدّ عذابًا من بعض ثم قال تعالى: {فلبئس مثوى} أي: مأوى {المتكبرين} عن قبول التوحيد وسائر ما آتت به الرسل. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20)}.
شرع سبحانه في تحقيق كون الأصنام التي أشار إليها بقوله: {كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} عاجزة على أن يصدر منها خلق شيء فلا تستحق عبادة فقال: {والذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله} أي: الآلهة الذين يدعوهم الكفار من دون الله سبحانه صفتهم هذه الصفات المذكورة، وهي أنهم {لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا} من المخلوقات أصلًا، لا كبيرًا ولا صغيرًا، ولا جليلًا ولا حقيرًا.
{وَهُمْ يُخْلَقُونَ} أي: وصفتهم أنهم يخلقون، فكيف يتمكن المخلوق من أن يخلق غيره؟ ففي هذه الآية زيادة بيان، لأنه أثبت لهم صفة النقصان بعد أن سلب عنهم صفة الكمال، بخلاف قوله: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} فإنه اقتصر على مجرد سلب صفة الكمال.
وقراءة الجمهور: {والذين تدعون} بالمثناة الفوقية على الخطاب مطابقة لما قبله.
وروى أبو بكر عن عاصم، وروى هبيرة عن حفص: {يدعون} بالتحتية، وهي قراءة يعقوب.
ثم ذكر صفة أخرى من صفاتهم فقال: {أموات غَيْرُ أَحْيَاء} يعني: أن هذه الأصنام أجسادها ميتة، لا حياة بها أصلًا، فزيادة {غير أحياء} لبيان أنها ليست كبعض الأجساد التي تموت بعد ثبوت الحياة لها، بل لا حياة لهذه أصلًا، فكيف يعبدونها وهم أفضل منها؟ لأنهم أحياء {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} الضمير في {يشعرون} للآلهة، وفي يبعثون للكفار الذين يعبدون الأصنام، والمعنى: ما تشعر هذه الجمادات من الأصنام أيان يبعث عبدتهم من الكفار، ويكون هذا على طريقة التهكم بهم، لأن شعور الجماد مستحيل بما هو من الأمور الظاهرة فضلًا عن الأمور التي لا يعلمها إلاّ الله سبحانه، وقيل: يجوز أن يكون الضمير في {يبعثون} للآلهة، أي: وما تشعر هذه لأصنام أيان تبعث، ويؤيد ذلك ما روي أن الله يبعث الأصنام ويخلق لها أرواحًا معها شياطينها فيؤمر بالكل إلى النار، ويدل على هذا قوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98].
وقيل: قد تمّ الكلام عند قوله: {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} ثم ابتدأ فوصف المشركين بأنهم أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون، فيكون الضميران على هذا للكفار، وعلى القول بأن الضميرين أو أحدهما للأصنام يكون التعبير عنها مع كونها لا تعقل بما هو للعقلاء جريًا على اعتقاد من يعبدها بأنها تعقل.
وقرأ السلمي {إيان} بكسر الهمزة، وهما لغتان، وهو في محل نصب بالفعل الذي قبله.
{إلهكم إله واحد} لما زيف سبحانه طريقة عبدة الأوثان، صرح بما هو الحق في نفس الأمر، وهو وحدانيته سبحانه، ثم ذكر ما لأجله أصرّ الكفار على شركهم فقال: {فالذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ} للوحدانية، لا يؤثر فيها وعظ، ولا ينجع فيها تذكير {وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} عن قبول الحق، متعظمون عن الإذعان للصواب، مستمرون على الجحد {لاَ جَرَمَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} قال الخليل: {لا جرم} كلمة تحقيق، ولا تكون إلاّ جوابًا، أي: حقًا أن الله يعلم ما يسرّون من أقوالهم وأفعالهم وما يعلنون من ذلك، وقد مرّ تحقيق الكلام في {لا جرم} {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المستكبرين} أي: لا يحبّ هؤلاء الذين يستكبرون عن توحيد الله والاستجابة لأنبيائه، والجملة تعليل لما تضمنه الكلام المتقدّم.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ} أي: وإذا قال لهؤلاء الكفار المنكرين المستكبرين قائل: ماذا أنزل ربكم؟ أي: أيّ شيء أنزل ربكم؟ أو ماذا الذي أنزل؟ قيل: القائل النضر بن الحارث والآية نزلت فيه؛ فيكون هذا القول منه على طريق التهكم؛ وقيل: القائل هو من يفد عليه؛ وقيل: القائل المسلمون، فأجاب المشركون المنكرون المستكبرون فقالوا {أساطير الأولين} بالرفع أي: ما تدّعون أيها المسلمون نزوله أساطير الأوّلين، أو أن المشركين أرادوا السخرية بالمسلمين فقالوا: المنزل عليكم أساطير الأوّلين.
وعلى هذا فلا يرد ما قيل من أن هذا لا يصلح أن يكون جوابًا من المشركين، وإلاّ لكان المعنى الذي أنزله ربنا أساطير الأوّلين والكفار لا يقرّون بالإنزال، ووجه عدم وروده هو ما ذكرناه؛ وقيل: هو كلام مستأنف، أي: ليس ما تدّعون إنزاله أيها المسلمون منزلًا بل هو أساطير الأوّلين؛ وقد جوّز على مقتضى علم النحو نصب {أساطير} وإن لم تقع القراءة به، ولابد في النصب من التأويل الذي ذكرنا، أي: أنزل على دعواكم أساطير الأوّلين، أو يقولون ذلك من أنفسهم على طريق السخرية.
والأساطير: الأباطيل والترّهات التي يتحدّث الناس بها عن القرون الأولى.
وليس من كلام الله في شيء، ولا مما أنزله الله أصلًا في زعمهم.
{لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً} أي قالوا: هذه المقالة لكي يحملوا أوزارهم كاملة.
لم يكفر منها شيء لعدم إسلامهم الذي هو سبب لتكفير الذنوب.
وقيل: إن اللام هي لام العاقبة، لأنهم لم يصفوا القرآن بكونه أساطير لأجل يحملون الأوزار، ولكن لما كان عاقبتهم ذلك حسن التعليل به كقوله: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8].
وقيل: هي لام الأمر {وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ} أي: ويحملون بعض أوزار الذين أضلوهم، لأن من سنّ سنّة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها.
وقيل: {من} للجنس، لا للتبعيض أي: يحملون كل أوزار الذين يضلونهم، ومحلّ {بِغَيْرِ عِلْمٍ} النصب على الحال من فاعل {يضلونهم} أي: يضلون الناس جاهلين غير عالمين بما يدعونهم إليه.
ولا عارفين بما يلزمهم من الآثام.
وقيل: إنه حال من المفعول أي: يضلون من لا علم له، ومثل هذه الآية: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ}.
[العنكبوت: 13].
وقد تقدّم في الأنعام الكلام على قوله: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [الأنعام: 164]. {أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ} أي: بئس شيئًا يزرونه ذلك.
ثم حكى سبحانه حال أضرابهم من المتقدّمين فقال: {قَدْ مَكَرَ الذين مِنْ قَبْلِهِمْ} ذهب أكثر المفسرين إلى أن المراد به نمروذ بن كنعان حيث بنى بناء عظيمًا ببابل، ورام الصعود إلى السماء ليقاتل أهلها، فأهبّ الله الريح، فخرّ ذلك البناء عليه وعلى قومه فهلكوا، والأولى أن الآية عامة في جميع المبطلين من المتقدّمين الذين يحاولون إلحاق الضرّ بالمحقين.
ومعنى المكر هنا الكيد والتدبير الذي لا يطابق الحق، وفي هذا وعيد للكفار المعاصرين له صلى الله عليه وسلم بأن مكرهم سيعود عليهم كما عاد مكر من قبلهم على أنفسهم {فَأَتَى الله بنيانهم} أي: أتى أمر الله، وهو الريح التي أخربت بنيانهم.
قال المفسرون: أرسل الله ريحًا، فألقت رأس الصرح في البحر، وخرّ عليهم الباقي {مّنَ القواعد} قال الزجاج: من الأساطين، والمعنى: أنه أتاها أمر الله من جهة قواعدها فزعزعها {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فوقهم} قرأ ابن أبي هريرة، وابن محيصن {السقف} بضم السين والقاف جميعًا.